مقدمة الطبعة العربية
بقلم أ.د. الطاهر الهادي الجهيمي
هذا الكتاب صدر حديثا لمؤلفه جاسون باك الكاتب الشاب المهتم بالشأن الليبي. والكتاب ليس كغيره من الكتب أو الأبحاث التحليلية التي نشرت حول الأزمة الليبية في سنوات العقد الأخير. فهو يقدم نظرة تحليلية متكاملة للتفاعل والتداخل بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية التي تفرز فيما بينها وضعًا معقدًا يزداد تعقيدًا بمرور
الوقت.
يوضح الكتاب أن العوامل الداخلية المتأصلة في التاريخ والجغرافيا توفر أسبابًا حقيقية للصراع، مثل التشتت السكاني والاصطفاف القبلي وضعف الحس الوطني وجمود الهيكلة الاقتصادية، وأسبابًا مصطنعة مثل الذرائع التي ما انفك السياسيون الانتهازيون يبتكرونها لتأجيج الصراع الجهوي والقبلي لتحقيق الوصول إلى السلطة أو البقاء فيها.
فضلًا
ولكون ليبيا بلدا ذا أهمية جيوستراتيجية بالنسبة لمحيطها الإقليمي والدولي، عن أهميتها الاقتصادية، فقد تسابقت دول إقليمية وغير إقليمية على التدخل في شؤونها منتهزة الفرص التي أتاحها الصراع بين القوى المحلية في شرق وغرب البلاد وذلك بالتحالف مع هذه القوى أو تلك وفي الوقت ذاته التحالف أو التنسيق مع القوى الإقليمية أو المجاورة.
لقد استفادت هذه القوى من تردد الولايات المتحدة وعدم قدرة دول الاتحاد الأوروبي على الاتفاق على سياسة موحدة اتجاه الأزمة الليبية. بهذه الكيفية تشابكت الخطوط في ليبيا وأنتجت أزمة يبدو أنها مستحكمة ومستعصية عن الحل.
وعند تحليل الأسباب الكامنة وراء المشهد، يعطي المؤلف أهمية للعامل الاقتصادي.
والواقع أن هذا التأصيل جيد في حد ذاته. في البداية طرحت قوى مختلفة شعار العدالة في توزيع الثروة لاستمالة الجماهير، وقد استغلت أطراف سياسية محلية وحتى أطراف خارجية هذا الطرح، وجعلت منه مطلبًا في أي توافق سياسي دون إبداء أي شواهد
فعلية لوجود سياسة ممنهجة أو قوانين أو مؤسسات تعمل بشكل انحيازي.
وقد نجحت القوى المختلفة في تسويق هذا المطلب وجعلت منه مطلبا شعبويا، دون أن تكلف نفسها تقديم مقترحات لمراجعة بنية مؤسسات معينة لتصحيح أوضاعها ليكون النظام الاقتصادي أكثر عدلا. المشكلة فيما يبدو لا تكمن في ضعف المؤسسات فقط، وإنما تكمن بشكل أكبر في غياب القانون والالتزام به، وانتشار الفساد وسياسات الاسترضاء التي يتبعها السياسيون ومن هم في المؤسسات اتجاه جماعات الضغط وخاصة المسلحة منها.
ولقد أرجع المؤلف أهمية عامل الاقتصاد في السياسة إلى مقولة استخدمها كلينتون بنجاح في حملته الانتخابية (1992) نقلا عن الاستراتيجي جميس كارفيل James وهي المقولة التي تقول إنه الاقتصاد يا غبي,It is the Economy
.Carville
.””Stupid
والحقيقة أن التفسير الاقتصادي للأزمات له قوته وله جاذبية، غير أنه نلاحظ أنه حتى في نظرية التفسير الاقتصادي للتاريخ لا ينفرد العامل الاقتصادي بتشكيل البنية التحتية والبنية الفوقية، وإنما تتشارك معه العوامل الاجتماعية وهي في الحالة الليبية تعني الموروث الثقافي والاعتبارات القبلية والجهوية، ويحسب للمؤلف أنه لم يهمل هذه العوامل بل أعطاها الأهمية التي تستحقها وبحثها بالتفصيل. ونلاحظ هنا أن «العامل الاقتصادي» الذي يركز عليه المؤلف يتعلق بالصراع على اقتسام الثروة وما يتعلق بالنزاهة والشفافية في توزيعها. أما العامل الاقتصادي» الذي تحدث عنه كارفيل، فهو في سياق التوضيح بأن مستويات الأسعار والدخل والبطالة في الاقتصاد
الأمريكي لها انعكاساتها المهمة على اتجاهات التصويت في الانتخابات الأمريكية.
وقد خرج المؤلف برؤية مفادها أن الحالة الليبية تقدم «حالة مصغرة» microcosm للعالم من حولها، من حيث إن أطرافها الفاعلة غير قادرة على حل خلافاتها طالما استمر تمسكهم الدائم بإضافة نقاط خلافية كلما ظهر في الأفق ما يشي بإمكانية إيجاد
حل لهذا الخلاف أو ذاك.
الأمثلة
فالعالم اليوم مفكك وغير قادر على حل الأزمات التي تظهر هنا أو هناك ، ومن ال على ذلك؛ الأزمات التي ما زالت قائمة على أشدها منذ نحو عقد أو أكثر من الزمن مثل أزمات سوريا واليمن وأوكرانيا، فضلا عن الأوضاع المستعصية في لبنان والعراق وأفغانستان وفلسطين.
هذا كله بالرغم من وجود مؤسسات دولية أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية، بغرض المحافظة على السلام الدولي ونشر الازدهار الاقتصادي في العالم وتأمين العدالة؛ ابتداء من الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. فضلا عن المؤسسات الإقليمية المماثلة مثل الجامعة العربية ومجالسها، ومصرف آسيا للاستثمار، ومصرف إفريقيا للتنمية، والمصرف الأوروبي للتنمية وغيرها من المؤسسات.
وفي سبيل إنتاج نظرية متماسكة يعمد المؤلف إلى الإسهاب في مراجعة التاريخ الاجتماعي والسياسي الحديث، والظروف التي نشأت فيها الدولة الليبية عام 1951، مرورا بكل العقود والعهود السابقة ووصولاً إلى أيامنا الحاضرة. والغرض من ذلك هو توضيح أن ليبيا خلال العقود السبعة الماضية كانت في أغلب الأحوال كيانا مفككا، لا توجد به المؤسسات القادرة على المحافظة على أوضاع الاستقرار أو هي. غير قادرة على استرجاع الاستقرار إذا ظهرت بوادر الاضطراب، تماما كما . هي الحال بالنسبة للنظام الدولي القائم منذ انتهاء الحرب الباردة في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي. عام 1989. لم تعد دول العالم قادرة على التعاون أو التنسيق فيما بينها لحل أي من المشاكل الدولية التي تظهر هنا أو هناك حتى المشاكل الكونية مثل تغير المناخ أو محاربة التطرف أو التصدي للأوبئة من قبيل كورونا وغير ذلك من هذه الأزمات، لم تجد التعاون الدولي الكافي. لماذا؟ لغياب القيادة ما جعل «العرش شاغراء حسب قول
المؤلف.
لقد تراجعت أمريكا اقتصاديًا وسياسيا نسبة للصين، ومن تم تراجع نفوذها في العالم وقررت الانسحاب والتنازل طوعيًا عن دور القيادة في عهد الرئيس ترامب، حتى محاولات الرئيس بايدن في استرجاع الولايات المتحدة لدورها في النظام العالمي قد لا تنجح، لأن هذه المحاولات تعالج مظاهر الاضطراب ولا تعالج جذوره. وفي الوقت ذاته لم تقم الصين الصاعدة بتحمل أعباء القيادة الدولية، ربما لعدم جاهزيتها بعد أو لعدم رغبتها في تحمّل أعباء القيادة، ما خلق فراغا أوجد ما أسماه المؤلف المناخ المثالي لظهور الاضطراب الكوني المستمر». من هذا كله يستنتج المؤلف التشابه الكبير بين «النموذج المصغر» الذي تمثله ليبيا والنموذج الأوسع الذي يمثله النظام العالمي القائم غير أن النموذجين ليسا منفصلين، فهما يتبادلان التأثير من خلال تهيئة الظروف الملائمة لنشوء الاضطراب، ومن خلال تبادل تصدير الاضطراب الأزمة الليبية تُصدر الهجرة غير الشرعية وأحيانا الجماعات المتطرفة وانقطاع الإمدادات النفطية، والأزمة الكونية تصدر التدخل وأسباب الخلاف وتأجيجه واستمراره. وحتى عند توفر حسن النية من أطراف داخلية في ليبيا، أو من أطراف خارجية، فإن هذه الأطراف غير قادرة على فرض رؤيتها لغياب القيادة أي لشغور (العرش) ما يعني أن الأزمة في ليبيا مرشحة
لتكون أزمة طويلة المدى.
النتيجة المخيفة للنظرية التي يطرحها المؤلف وبالرغم من أن المؤلف لا يتمسك بعلمية النظرية، ولا يضمن صمودها أمام إمكانية ظهور نظريات تفسيرية أخرى. فهو يشير بوضوح إلى أن خبرته العلمية ومعرفته الشخصية بأحوال ليبيا، وما توفر له من إمكانيات علمية استقاها من دراسته في أكسفورد ،وغيرها هي : ما هدته إلى التفكير الذي قاده إلى طرح نظريته في تفسير الأزمة الليبية، وربطها بحالة التأزم العام في العلاقات الدولية المعاصرة. وهي بهذا نظرية سياسية تأخذ بالمنهجية العلمية، حتى وإن ظهرت لاحقا نظريات أخرى منافسة في تفسير الأزمة وتوصلت إلى نتائج مختلفة، فإن ذلك لا يعني ! أن نظرية المؤلف غير علمية. هذا الكتاب الذي نحن بصدده؛ يمثل لا شك جهدًا كبيرًا بذله المؤلف في سبيل إعداده، كما يمثل جهدًا فكريا متميزا، ويعكس معرفة واسعة وأصلية بالأحوال السياسية والاقتصادية في ليبيا، كما خبرته في شؤون وتاريخ العلاقات الدولية.
وإذا كانت الخلاصة التي توصل إليها المؤلف، وهي أن الأزمة الليبية مرشحة لتكون أزمة طويلة المدى فالسؤال هو: هل في الكتاب من حل لهذه الأزمة؟
يستبعد المؤلف أن تجد الأزمة الليبية لنفسها حلا سريعا.(1) ولكونه يعطي دورًا
رئيسا للعامل الاقتصادي واقتسام الموارد، فإنه يقترح إنشاء «لجنة مالية دولية» ,International Financial Commission الإخراج العامل الاقتصادي من
الصراع، مما يسهل من الاتفاق وتسوية الأمور الخلافية الأخرى.
يقترح مؤلف الكتاب أن يكون مقر اللجنة خارج ليبيا ( في مالطا أو تونس أو لندن)، ويكون لها مكاتب في طرابلس ومصراته وسبها وطبرق والبيضاء وبنغازي تدار اللجنة بعدد متساو من المصوتين من ليبيا ومن القوى الرئيسة الدولية والإقليمية ويتناوب على الرئاسة ليبي وبريطاني وأمريكي ومسؤول من الاتحاد الأوروبي. مهمة اللجنة الأساسية هي إدارة الأموال العامة وتوزيعها بعدل وشفافية، وإعادة هيكلة المؤسسات الاقتصادية وبناء القدرات. ويشدد المؤلف على أهمية مشاركة المؤسسات الاقتصادية التي يصفها بـ«شبه السيادية». والتي يأتي في مقدمتها: مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الليبية للاستثمار والشركة القابضة للاتصالات. كما يوضح سبق أن ناقش موضوع تشكيل اللجنة وطبيعة مهامها مع هذه المؤسسات وغيرها، ومع نخبة من الشباب والمثقفين ووجد منهم تجاوباً واقتناعًا بأن الأزمة الليبية قد
أنه
وصلت إلى الحد الذي لا يمكن معه لليبيين لوحدهم أن يجدوا حلولا لمشاكلهم. وبالرغم من أن جاسون باك قد نشر أفكاره حول تشكيل اللجنة المالية الدولية تحت عنوان مثير هو إنشاء لجنة مالية دولية هو الأمل الأخير لليبيا» في مجلة معهد الشرق الأوسط في سبتمبر 2020 ، فإنه لم يتم تداولها وقبولها على نطاق واسع. (2)
وقد استبق باك احتمالات التحفظ الذي يمكن أن تلقاه فكرة تشكيل اللجنة خاصة أنها يمكن أن توحي للبعض بشيء يشبه تجربة النفط مقابل الغذاء» الفاشلة في العراق، أو ربما لأنها يمكن أن تستبدل التدخل الأجنبي الخشن بتدخل أجنبي ناعم لا يقل خطورة، وفي جميع الأحوال من غير المنتظر أن يقبل المستفيدون من الأوضاع
1- انظر مقابلة السيد بالك مع مجلة International Policy Digest الصادرة بتاريخ 30 أبريل 2022، حيث يتوقع أن الأوضاع قد تزداد سوءا على مدى السنوات الثلاث أو الخمس القادمة لكنها قد تتحسن فيما بعد، ويذكر في هذا الصدد المزايا التي تتمتع بها ليبيا جيوسياسيا واقتصاديا.
2 قبل ذلك بقليل نشر Chatham House بتاريخ 20/11/2019 مقالة مشابهة وأقل طموحًا للمهتم بالشأن الليبي Tim Eaton تحت عنوان “Libya Needs An Economic Commission to Exit from Violence “.
الارتباط القائمة بين العناصر المحلية المؤججة للصراع في ليبيا، والعناصر الخارجية في زمن تفكك النظام الدولي، الذي تغيب عنه القيادة الجامعة والمصالح المشتركة، ما أدى إلى ضعف فاعلية المنظمات والكيانات الدولية والإقليمية، وعزز من سياسات التدخل في ليبيا القائمة على الانتهازية والطمع من طرف بعض الدول المجاورة والإقليمية وغيرها وهذا في مجمله ما يسميه المؤلف بزمن الاضطراب الدولي المستمر» وهو كذلك.
أ.د. الطاهر الهادي الجهيمي
محافظ مصرف ليبيا المركزي (1996-2001)
وزير التخطيط (2003-2008) و (2016-2020) طرابس الأربعاء الموافق 11 مايو 2022