تنبع استراتيجية السياسة الخارجية لأي دولة أساسا من السياسة العليا للدولة، وتتفاعل معها نهوضاً وهبوطاً وتشكل السياسة الخارجية شكل ومحتوى علاقاتها بمحيطها والعالم الخارجي للمحافظة على أمنها واستقرارها وتجسيد هويتها الوطنية وتسخيرها لخدمة مصالحها وتحقيق نهضتها وتعزيز دورها الجيوسياسي.
انقضى على تأسيس الدولة الليبية منذ استقلالها أكثر من سبعة عقود تبنت خلالها الأنظمة التي تعاقبت على حكم ليبيا سياسات خارجية متباينة في الرؤى والأهداف ومسارات العمل طبقا للظروف والتحديات التي واجهتها، شاب جانب من تلك السياسات عديد القرارات والممارسات غير المدروسة، أدت إلى خلق أزمات متعدد انحرفت بها عن المسار الذي يستوجب عليها أن تسلكه كدولة نامية بتطلع شعبها الذي عانى الكثير من ظلم المستعمر ويطمح إلى حياة كريمة يحظى فيها أبناءه بمستوى تعليمي وصحي وحياتي أفضل يخيم عليه الأمن والاستقرار في ظل ما حبى الله ليبيا من موقع جغرافي استراتيجي وموارد هامة وتعداد بشري صغير يمكنها فيما لو تم إدارته واستثماره بشكل صحيح بتحقيق نهضة شاملة تعزز الأمن والاستقرار والازدهار وتعظم من تأثيرها الجيوسياسي في محيطها.
تواجه ليبيا خلال هذه المرحلة الانتقالية تحديات جمة على المستوى الداخلي ناجمة عن الانقسام السياسي وتدهور الأوضاع الأمنية وضعف الرقابة على الحدود، كذلك على المستوى الخارجي ناجمة عن التدخل في شؤونها الداخلية ونمو الأنشطة الاجرامية العابرة للحدود وتفاقم ظاهرة الهجرة الغير قانونية.
تستوجب الضرورة الملحة أن يكون للدولة الليبية الحديثة المنشودة سياسة خارجية ذات رؤية واضحة تتمثل في (دبلوماسية رفيعة، علاقات دولية متوازنة – تعاون مثمر – هادفة إلى تحقيق الأمن والاستقرار والازدهار والارتقاء بمكانة ليبيا بين الأمم والشعوب) يسير على هديها صناع القرار والعاملين بالجهات التنفيذية المعنية بها لمحاربة التحديات وتحقيق الأهداف التي تصبو إليها، وتستجيب بكفاءة للمطالب الوطنية وتستوعب الأوضاع والتغيرات الدولية على كافة الصعد خاصة في جوانبها السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية، ترتكز على الثوابت التالية:
- المحافظة على استقلال ليبيا والدفاع عن وحدتها وسلامة أراضيها ورفض كافة أشكال التدخل والتهميش والإقصاء والتأثير على استقلالية القرار الليبي.
- الاعتزاز بالهوية الوطنية والموروث الثقافي والاسهامات الليبية في إثراء التراث الحضاري والإنساني.
- التعامل مع الأوضاع الإقليمية والدولية في جوانبها المتعددة بمهنية وموضوعية وكفاءة عالية.
- حماية ورعاية مصالح وحقوق الدولة الليبية في الخارج.
وبناء على ذلك تستند السياسة الخارجية الليبية على مبادئ يتعين الالتزام بها وتوجهات ينبغي السير على هديها، وأهداف تصبو لتحقيقها وذلك على النحو التالي:
- أولا: المبادئ:
تستند مبادئ السياسة الخارجية على التشريعات الوطنية والمواثيق والأعراف الدولية مع التأكيد على الاتي:
- الولاء لليبيا والخلاص لها.
- الندية والاحترام المتبادل والمعاملة بالمثل.
- احترام سيادة الدول واستقلالها ووحدة أراضيها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
- الالتزام بالمواثيق والمعاهدات والاتفاقيات وغيرها من المواثيق الدولية التي تعد ليبيا طرفا فيها.
- احترام مبادئ الديمقراطية وسيادة القانون والحكم الرشيد وحقوق الانسان، وإعلاء القيم الإنسانية المشتركة.
- تعزيز السلم والأمن الدوليين، والعمل على تسوية الخلافات بين الدول بالطرق والوسائل السلمية، وعدم استعمال القوة في العلاقات الدولية.
- انتهاج سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز.
- ثانيا: توجهات السياسة الخارجية:
- الاسهام في الجهود المبذولة لجعل العالم أكثر أمناُ واستقراراً تسوده العدالة ويخيم عليه روح التسامح وعلاقات حسن الجوار.
- عدم السماح باستخدام الإقليم الليبي كقاعدة للاعتداء أو التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
- إرساء وتعزيز أسس التعاون الثنائي ومتعدد الأطراف بما يحقق المصالح والمنفعة المشتركة.
- توظيف العلاقات الخارجية لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة للشعب الليبي.
- تسخير الخبرة والدروس المستفادة والإمكانيات الوطنية في مواجهة التحديات التي تفرضها العولمة والتطورات المتصلة بتقنية المعلومات والاتصالات.
- توظيف الموقع الاستراتيجي للبلاد والموارد البشرية المؤهلة والمادة المتاحة في خدمة أهداف السياسة الخارجية لتحقيق المصالح العليا للدولة.
- الأخذ في الحسبان الاعتبارات القومية، الجوار الجغرافي، الدواعي الأمنية، المصالح السياسية والاقتصادية، وغيرها في تقييم علاقات ليبيا مع مختلف الدول والمنظمات.
- تطوير الخطاب الإعلامي وتسخيره لخدمة أهداف السياسة الخارجية.
- ثالثا: الأهداف
تهدف السياسة الخارجية إلى تحقيق جملة من الأهداف أهمها:
- الارتقاء بمكانة ليبيا والرفع من شأنها بين الأمم والشعوب وتجنيبها الدخول في صراعات من أي نوع.
- المشاركة الإيجابية والفاعلة في بلورة المواقف واتخاذ القرارات على المستويين الدولي والإقليمي في مختلف المجالات.
- تعزيز علاقات ليبيا مع دول العالم على أساس الاحترام المتبادل والندية والمعاملة بالمثل وحسن الجوار.
- توظيف العلاقات والروابط الثنائية والمتعددة في تحقيق أكبر قدر من المكاسب عبر شراكات أساسها تبادل المنافع وتحقيق المصالح.
- رفع ليبيا من طائلة الباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة وأي عقوبات دولية أو أحادية مفروضة عليها.
- حماية الأصول والاستثمارات الليبية في الخارج.
- حصر واستعادة الأموال والممتلكات الثقافية الليبية المهدبة بالخارج.
- رابعاً: نظام العمل ومساراته:
- نظام العمل:
- تعديل أحكام القانون رقم (2) لسن 2001 بشأن تنظيم العمل السياسي والقنصلي ولائحته التنفيذية بما يتفق مع أحكام ونصوص الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بالعمل السياسي والقنصلي لا سيما من حيث توصيف الوظائف الدبلوماسية والإدارية والفنية.
- إعادة النظر في الهيكل التنظيمي والجهات العاملة بوزارة الخارجية والتعاون الدولي بما يكفل الإبقاء على المؤهلين من ذوي الخبرة والكفاءة.
- إخضاع الايفاد للعمل في الخارج لمعايير وضوابط محددة بالقدرة والكفاءة.
- إيلاء اهتمام أكبر بدور المعهد الدبلوماسي في بناء القدرات وتطوير وتنمية المهارات ورفع قدرات الموظفين الدبلوماسيين العاملين بالوزارة والذين يوفدون للعمل بالسفارات والبعثات.
- التقييم الدوري لعمل الإدارات والمكاتب والسفارات التابعة بوزارة الخارجية والتعاون الدولي وتوظيف المخرجات في إبراز جوانب النجاح والبناء عليها وتحديد أوجه القصور ووضع الحلول المناسبة لها.
- الإعداد المسبق في متسع من الوقت للاجتماعات الدولية والإقليمية والثنائية ومراعات حسن اختيار أعضاء الوفود المشاركة فيها من حيث الخبرة والكفاءة والقدرة على متابعة وتقييم النتائج.
- إيلاء الاهتمام اللازم للتخطيط الاستراتيجي وربط التقسيم الإداري الخاص بالجامعات ومراكز البحوث والدراسات في الداخل والخارج.
- الاختيار الجيد للسفراء والمندوبين الدائمين والممثلين للدولة الليبية المشهود لهم بالخبرة والكفاءة على أن تعد كل سفارة أو بعثة برنامج عملها السنوي بحيث يقيم أدائها على ضوء النتائج سلبا أو إيجابا.
- التحول التدريجي نحو الإدارة الالكترونية على جميع مستويات العمل الدبلوماسي.
ب- مسارات العمل:
- على مستوى دول الجوار:
يفرض موقعها الجغرافي وروابط الحوار والمصالح الحيوية المشتركة الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والجيوسياسية إيلائها أهمية نوعية تترجم في:
- الإبقاء على التمثيل الدبلوماسي الكامل معها.
- الاسبقية في إقامة الاستثمارات والتعاون في إقامة المشاريع التكاملية ذات الجدوى الاقتصادية.
- التعاون والتنسيق في مجال مراقبة الحدود المشتركة.
- تفعيل اللجان العليا المشتركة، والخاصة بترسيم الحدود وتسوية المشاكل الحدودية الناجمة عنها.
- الدخول في شراكات لمعالجة القضايا ذات الاهتمام المشترك لا سيما في مجال مكافحة الظواهر الاجرامية العابرة للحدود، الهجرة غير القانونية وغيرها.
- على مستوى الدول العربية.
هذه الدول لها خصوصية عرضها الانتمائي القومي ووحدة اللغة والهدف والمصير، تملي هذه الخصوصية:
- التأكيد على علاقات الأخوة معها.
- تنسيق المواقف في مختلف المحافل الدولية والإقليمية.
- التشجيع على إقامة الاستثمارات والمشروعات التكاملية ذات الجدوى الاقتصادية.
- تنسيق العمل العربي المشترك من خلال الاتفاقيات المبرمة وإطار جامعة الدول العربية.
- تفعيل اللجان العليا والوزارية المشتركة.
- على المستوى الإقليمي
ويشمل دول الإقليم التي ترتبط ليبيا معها بمصالح سياسية وأمنية واقتصادية وعلمية وتقنية، فضلا عن دورها السياسي والاستراتيجي في محيطها، علاوة على ما يتمتع به البعض منها من تقدم علمي وتقني وعسكري باتجاه تعزيز علاقات التعاون في مختلف المجالات ذات الاهتمام المشترك وتنسيق المواقف السياسية لخدمة المصالح المشتركة.
- على المستوى الدولي:
يشمل هذا المستوى الدول التي تلعب دورا مفصليا في العلاقات الدولية نظرا لتأثيرها السياسي وقوتها الاقتصادية وتقدمها العلمي والتقني وتتمتع البعض منها بمراكز متميزة وثقل في اتخاذ القرار الدولي، فضلا عن ارتباط ليبيا معها بمصالح حيوية، ويتطلب هذا المستوى التواصل السياسي والدبلوماسي بما يدفع باتجاه التعاون والتفاهم المشترك واتخاذ المواقف الداعمة لتحقيق مصالح الدولة الليبية.
- تكوين علاقات ليبيا السياسية والاقتصادية مع بقية الدول بما في ذلك تحديد حجم ومستوى التمثيل الدبلوماسي على أساس مرجعي يتم تحديده من قبل الوزارة المختصة.
- خامساً: أدوات التنفيذ:
وزارة الخارجية والتعاون الدولي هي القناة الرسمية الوحيدة المعنية بالتعامل مع الشأن الخارجي تحت اشراف السلطة التنفيذية، وبالتعاون مع الجهات الوطنية ذات العلاقة وهي:
- إدارة ومكاتب التعاون الدولي والفني بالجهات التشريعية والقضائية والتنفيذية والاستخباراتية.
- المؤسسة الليبية للاستثمار والجهات التابعة لها.
- مصرف ليبيا المركزي.
- الاعلام الخارجي.
- القوة الناعمة: الجهات المعنية بالنشاط الثقافي – العلمي – الرياضي – الفني – السياحي – التجاري المتبادل.
إعداد: أ. عصام زاوية

