اعداد: د. سليمان سالم الشحومي
مؤسس سوق المال الليبي وأستاذ التمويل و الاستثمار بجامعة نوتنغهام ترنت ببريطانيا
1- الملخص التنفيذي
تستلقي ليبيا بأكبر ساحل علي البحر المتوسط مقابل الاتحاد الأوروبي و الأغنى بالنفط و الغاز كما انها تحتل المركز السادس عشر علي مستوي العالم من حيث المساحة ، و الترتيب التاسع عالميا في احتياطي النفط و الخامس عالميا في النفط الصخري ، وثاني اكبر مخزون احتياطي من الذهب بأفريقيا و الرابعة و العشرون عالميا ، ليبيا المنفذ الافريقي الاوسع علي اوروبا و اقرب مصادر الطاقة النفطية الغازية وحتي الشمسية والذي يمكن ان يكون وسيطا مهما للتبادل الصناعي و التجاري بمنطقة حوض المتوسط و الساحل و الصحراء بأفريقيا ، جل هذه الموارد و الفرص الاقتصادية غير مستغلة او معطلة بسبب استمرار انعدام نموذج تنموي واضح و تأثيرات الصراع المستمر . الصراع البارد أحيانا و المشتعل أحيانا اخري مع اطراف خارجية خلال السنوات الاربعين من عمر النظام السابق و الملتهبة خلال العشر سنوات الأخيرة داخليا بحرب بين ابناء البلد علي الثروات المادية بالموازنات الحكومية بفساد منقطع النظير وفقا للتقارير الدولية حول الشفافية فجاءت ليبيا متذيلة الترتيب 168 من اصل 180 بلد بالعالم كأكثر البلدان فسادا ، فقد انفقت مليارات خلال السنوات الأخيرة ولم توظف في التنمية .
اصبح المواطن الليبي يعيش حياة تكاد تكون بدائية في عصر التكنولوجيا و التطور العلمي و الذي صار همه اليومي ان يحصل علي الوقود و انبوبة الغاز و المرتب من البنك و سط فقدان تام لشبكة الامان الاجتماعي و الاقتصادي سواء للعامين او المتقاعدين وحتي العاطلين عن العمل علي حد سواء ، لم تجد الناس امام هذا الانهيار الغير مسبوق برغم انفاق المليارات سنويا الا الخروج في مظاهرات واعتصامات للتعبير عما يعانون وبدون جدوي فلا قدرة علي احداث اي تغيير حقيقي برغم اهدار المليارات .
ويعاني الاقتصاد الليبي من حالة بطالة مرتفعة و بطالة اخري مقنعة في الجهات الحكومية و قطاع خاص محدود جدا وغير مهيئة لاستيعاب فائض البطالة و في ظل تردي البنية الأساسية القائمة و عدم وجود منظومة لتعزيز قدرة القطاع الخاص في المساهمة بالنهوض بالاقتصاد الليبي يمكن ان توفر أسس مناسبة للتحول الي اقتصاد قائم علي الابداع و الابتكار و يستقطب الاستثمار المحلي و الخارجي.
ان استشراف مستقبل الاقتصاد الليبي بعد الصراع يتطلب ان يعاد هيكليته وإعادة تصميم عملياته و إعادة رسم أدوار مؤسساته الأساسية و التحول بها نحو النموذج الشامل الخلاق و الابتعاد عن النموذج التقليدي الاستحواذي تحويلها لمؤسسات تشغيل و اطلاق محركات اقتصادية جديدة تدفع بالاستثمار و النمو، و تمكين القطاع الخاص و تجذب الاستثمارات المحلية و الأجنبية و تشجعهم علي لعب أدوار اكبر في مستقبل الاقتصاد الليبي اقتصاد تكون فيه الفرص متاحة في اطار رؤية مناسبة تعمل علي تنويع اقتصاد تنافسي اولوياته زيادة فرص العمل و الانتاج و تحقيق الذات و يدعم الصغير و يحمي الكبير.
ولكن لن تجدي الامنيات في تحقيق ما يطمح اليه اذا لم تتم مراجعة شاملة للواقع الاقتصادي و الاجتماعي المترابطين و اعادة صياغة قواعد و أليات واضحة و شفافة تضمن العدالة و المحاسبة و الشفافية للجميع. و بدون شك ان استشراف مستقبل الاقتصاد الليبي في ظل إعادة هيكلة شاملة وافساح المجال امام القطاع الخاص المنظم لعب دور أساسي ضمن تحديد لا أدوار كافة الأطراف المتداخلة و مراقبة قدرة القطاع الخاص علي ان يقود مشروع التنمية الاقتصادية بتنافسية و عدالة و تحقيق مساهمة مجتمعية و بيئية مستدامة و مؤثرة في المجتمع و اعادة بنائه علي أسس جديدة تمكن من تحقيق الاستقرار الاقتصادي و العدالة و الشفافية الملائمة و توطين منظومة لشبكة الأمان الاجتماعي لحماية الفئات الضعيفة بالمجتمع و كل ذلك يتطلب ان يكون في ظل عدالة فاعلة تضمن المساواة و العدالة بين الجميع . وبدون شك ان السير في طريق بناء مستقبل اقتصادي يحقق تطلعات الشعب الليبي يتطلب مشروع اقتصادي متكامل يرتكز علي أولويات و موجهات أساسية و اهداف استراتيجية تمثل الاطار الذي يبني عليه مشروع مستقبل الاقتصاد الليبي كما تم بيانه في الجزء الخاص بالموجهات الأساسية للاقتصاد الليبي. ويلخص نموذج المرتكزات العشرة لمستقبل الاقتصاد الليبي الأسس التي تبني عليها الأولويات الأساسية لتشكيل وإعادة بناء مستقبل الاقتصاد الليبي في اطار رؤية اقتصادية جديدة للانطلاق نحو مستقبل اقتصادي و اجتماعي مشرق لليبيا.

نموذج مرتكزات مستقبل الاقتصاد الليبي
المصدر: (المؤلف)
وفي هذا الجزء نستعرض لاهم عناصر الافاق المستقبلية (استعادة مسار التنمية، مؤسسات اقتصادية مستقرة ، العدالة الاجتماعية و الاقتصادية ، الحوكمة المؤسسية الشاملة ، القطاع الخاص) التي سيكون من المهم ان يرتكز عليها عملية استشراف مستقبل الاقتصاد الليبي لتحقيق استقرار وتنمية مستدامة ومستقبل أفضل للشعب الليبي واقتصاده .
2- استعادة مسار التنمية
المسار التنموي الليبي توقف تماما منذ 2011 بسبب الحروب والنزاعات الاهلية، وبرغم ان الدولة الليبية استمرت في الانفاق الحكومي على نفس المنوال بل ازداد أكثر في الانفاق الجاري والذي تركز في المرتبات و التي تزايدت بشكل غير مسبوق و صارت تشكل اكثر من 60 % من الانفاق الحكومي و سيطرت نفقات الدعم علي اكثر من 25 % من الانفاق الحكومي وغيرها من مصروفات الانفاق التسييري وبعض الاصول الغير انتاجية مثل شراء السيارات والاثاث المكتبي وغيرها و انزوي الانفاق التنموي و صار مرتبك و لقمة سائغة للفساد و الاستغلال برغم ان القانون ينص علي ضرورة ان يشكل الانفاق التنموي من موازنة الإيرادات النفطية ما لا يقل عن 70% و هذا امر ان كان لم يتحقق منذ سنوات طويلة فقد صار غير ممكن حتي تحقيق ربعه بسبب تغول الانفاق الاستهلاكي الحكومي و تزايد المطالبات بتويع العائد الريعي في اطار الا مركزية الإدارية و الحكم المحلي.
الواقع أن تعطل المسار التنموي بليبيا انعكس في تعطل حركة الاستثمار المنظم الذي يساعد في خلق فرص العمل ويساعد علي تنمية الانشطة المرتبطة بالاستثمار ، ان عودة المسار التنموي تحتاج أن تبني اطار يعتمد على نموذج لتحفيز الاستثمار الخاص والاستثمار الحكومي معا، فالحكومي يحتاج ان يرتكز على إعادة تحريك مشروعات البنية الأساسية المتوقفة وإرجاع عمليات استكمال التنفيذ وحتما ذلك سيحتاج إلى تمويل استثماري كبير وعلى مدار سنوات قادمة طويلة وتفاهمات مع الدول والشركات المتعاقد معها وكل ذلك سيكون مرهون بتطور حالة الاستقرار الهش التي تعيشها ليبيا الان والمساعي لتوحيد السلطة التنفيذية ومؤسساتها المنقسمة. كما ان اشراك القطاع الخاص في تمويل وتنفيذ مشروعات التنمية المتعثرة سيكون امر في غاية الأهمية لا استعادة المسار التنموي الليبي و سيكون في حاجة لخلق محفزات وآليات في مجالات التطوير العقاري وتنفيذ عمليات الاعمار ومتطلباتها المختلفة، وسيكون مشروع استعادة التنمية في حاجة إلى مشروع تقوده الحكومة بإشراك المصارف للتمويل وقطاع التطوير العقاري الخاص ، فالقطاع العقاري سيشكل قاطرة اقتصادية مصاحبة لقاطرة القطاع النفطي لقيادة عملية استعادة التنمية وتحقيق النمو الاقتصادي بليبيا بعد الصراع والعشرية السوداء.
ما يحتاجه هذا النموذج للتطوير العقاري في ليبيا أن تطلق الدولة مشروعات لمخططات جديدة وتدمج مشروعات التنمية المتوقفة بغرض الاستكمال ويتولى المطورين العقاريين من القطاع الخاص إطلاق و تنفيذ مشروعات عقارية مختلفة اسكانية وخدمية وتجارية بتمويل من القطاع المصرفي و المؤسسات الاستثمارية الأخرى و لعل من الأهمية ان يتم اصدار تشريع ينظم التطوير و الاستثمار العقاري بليبيا يقدم اطار لجميع الأطراف ذات العلاقة بالتطوير و الاستثمار العقاري و اطلاق جهة رقابية للأشراف علي التطوير و الاستثمار العقاري. سيكون من العبث الاصرار علي أن تقوم الحكومة باستكمال المشروعات دون إشراك مصادر تمويل وإدارة أخري وعلى رأسها القطاع الخاص ممثلا في المطورين العقاريين والمقاولات والمستثمرين الممولين و صناديق استثمار عقارية خاصة والبنوك التجارية كممول للمستفيدين من المشروعات سواء كانت اسكانية او اقتصادية متنوعة فذلك سيفتح امام الليبيين فرصة لاستعادة المسار التنموي عبر وضع أسس مستقبلية سليمة لقطاعات اقتصادية تحمل في طياتها فرص كبيرة مثل القطاع العقاري و التركيز علي قطاعات تمثل قاطرة للتنمية وتحديدا القطاع النفطي و القطاع العقاري مع قطاعات اخري مصاحبة و تستند علي هذين القطاعين الرئيسين لتعزيز التنمية والنمو و المضي نحو تنوع اقتصادي متوازن يعمل علي يخلق كيانات اقتصادية ليبية جديدة تكون دعامة حقيقة لتطور الاقتصاد الليبي.
وبدون ادني شك ان استعادة مسار التنمية يتطلب وضع برنامج تفصيلي للنهوض بالقطاعات الاقتصادية التي ستقود المسار التنموي وتعزز من مساهمتها في النمو الاقتصادي وتساعد علي اشراك قطاع أوسع من الشباب و أصحاب المشروعات الجديدة المختلفة من مقدمي خدمات و مزودي تكنولوجيا و موردين و منفذين اعمال و غيرهم. وقد تكون الفرصة سانحة امام عملية تشكيل مستقبل الاقتصاد الليبي ان يقوم بصياغة نموذجه الاقتصادي و الذي يعزز من دور قطاع خاص و قطاع مشترك مع الاستثمارات الحكومية في تعزيز التنمية المستدامة و تحقيق أهدافها المعلنة من قبل الأمم المتحدة السبعة عشر كأهداف يجب تحقيقها بحلول 2030 و التي حتما يمكن وضع مؤشر لمراقبة قدرة الأدوات الاقتصادية علي المساهمة في تحقيق اهداف التنمية المستدامة كالحفاض علي البيئة الأرضية و البحرية و مجابهة الفقر و القضاء علي الجوع و الحقوق الثقافية و التراثية و غيرها.
مقترحات لاستعادة مسار التنمية
- أولا: ان استعادة مسار التنمية في حاجة لإطار قانوني فاعل يعيد النظر في حزمة القوانين ذات العلاقة بالتخطيط والتطوير العمراني.
- ثانيا: صدار قانون للتطوير والاستثمار العقاري وإعادة تنظيم الملكية العقارية وذلك في ضوء خطة استراتيجية و برامج تنفيذية متكاملة لتطوير المناطق الحضرية بالمدن و المناطق الاقتصادية الليبية بكافة اشكالها و إرساء قواعد الاستثمار و التمويل للقطاع العقاري ليكون معززا و دافعا لتحقيق مستهدفات التنمية المكانية المستدامة.
3- المؤسسات الاقتصادية المستقرة
تحقيق النمو أو التنمية الرئيسيّة في أي اقتصاد سواء كان نامي أو متقدم يعتمد علي جملة من العناصر الأساسية هي : الاستثمار، القوي العاملة ومهاراتها الإنتاجية، الموارد الطبيعية، التكنولوجيا ومدى استخدامها في الانتاج والخدمات، ولكن الدراسات الحديثة فحصت معدلات النمو في عدد من الدول ووجدت أن هذه العناصر لا تشكل سوي نسبة ضئيلة مجتمعة من مكون النمو المستدام أو معدل النمو المحقق بالاقتصاد المحلي، فالنمو الاقتصادي يعني تحقيق تنمية مستدامة مبنية على نمو مستدام لفترة طويلة من الزمن يحدث فيها زيادة الدخل الحقيقي ولابد أن تكون هذه الزيادة أكبر من معدل زيادة السكان لخلق الثروة والتي يتم تدويرها في شكل دخول للأفراد بالمجتمع، و العناصر المكونة للنمو الاقتصادي والذي يوسع حجم الاقتصاد ويحقق التنمية المستدامة ويقلص الفقر ويخلق فرص العمل لتشكل الجزء الأهم من مكون النمو ولكن العامل الابرز والمسبب الرئيسي في تحقيق التنمية هو وجود المؤسسات الاقتصادية الفاعلة والمؤثرة و المدرجة بالسوق المالي و متاحة للاستثمار بها من الجميع و تفصح عن أدائها بشفافية و لديها مساهمات مجتمعية معلنة هذه المؤسسات الاقتصادية تعتبر ركيزة أساسية لإعادة بناء الاقتصاد الليبي علي أسس جديدة تعزز من قدرة القطاع الخاص و دوره في خلق بيئة اقتصادية جديدة مستقرة و فاعلة عبر تنوعه وتوزعه بين مؤسسات مالية ومؤسسات تجارية وصناعية وخدمية وتكنولوجية ، بالإضافة إلى مؤسسات أخرى مصاحبة مثل المؤسسات الحكومية للرقابة والإشراف، ومؤسسات قضائية ناجزة و مؤسسات مجتمع مدني في شكل مؤسسات مستقرة و شفافة وتلعب دور رئيسي في إدارة مفاصل الاقتصاد و اليات لمراقبة الحوكمة الرشيدة بالمؤسسات العامة و الخاصة و قياس مدي المساهمة المجتمعية و تحقيق قدر من المسؤولية المجتمعية لكافة المؤسسات.
بدون ادني شك يعاني الاقتصاد الليبي من معضلة عدم استقرار مؤسساته الاقتصادية العامة و التي تشكل المظهر الأبرز لمؤسسات الاقتصاد ، و تتخذ المؤسسات الاقتصادية العامة الليبية صفة الاستحواذ و السيطرة المفرطة علي أوجه النشاط الرئيسية بالاقتصاد الوطني ، فنشاط النفط و الذي يعتبر الركيزة الأساسية للدخل و يشكل النسبة الاغلب من الناتج القومي الإجمالي تسيطر عليه الدولة بالكامل و لم يسمح للقطاع الخاص الليبي ان يساهم بشكل مباشر في عملياته وبرغم مرور اكثر من ستين سنة علي المباشر في استخراج النفط الا ان اغلب النشاط النفطي هو نشاط حكومي و لكنه يسمح للمستثمر الأجنبي بالمشاركة و الاستثمار بالقطاع و لا يسمح او يحاول ان يشرك القطاع الخاص الليبي في المساهمة في تنمية هذا القطاع . وعلي الجانب الاخر نجد ان القطاع الحكومي او شبه الحكومي يسيطر علي اغلب القطاع المالي و المصرفي الليبي، اغلب ملكية المصارف التجارية الرئيسية هي مملوكة لمصرف ليبيا المركزي و حتي مع وجود جزء من المصارف التي كانت سابقا مملوكة للمصرف المركزي مثل مصرف الوحدة و مصرف الصحاري و التي اصحبت مملوكة لصندوق الانماء عبر برنامج توزيع الثروة علي المستحقين للثروة و الذي يديرها صندوق الانماء بالنيابة عنهم فان المصرف المركزي لازال يقوم بممارسة مهام المالك بالتنسيق مع صندوق الانماء. بالإضافة الي ان قطاع الاستثمار و التمويل يكاد يكون مسيطر عليه من قبل صناديق و شركات استثمارية حكومية او شبه حكومية مثل صندوق الانماء و الذي يشرف و يدير مجموعة واسعة من أدوات ممارسة الأنشطة الاقتصادية و التي اغلبها تتصف بانها فاشلة او تعاني من صعوبات مالية، و صندوق الاستثمار الداخلي الذي اسسه المصرف المركزي مع المؤسسة الليبية للاستثمار و غيرها من المؤسسات الاستثمارية الأخرى التابعة لصندوق الضمان الاجتماعي و غيرها من الشركات التي لازالت تابعة لملكية الوزارات، كما ان قطاع الاتصالات مملوك و مسيطر عليه بالكامل من قبل ملكية الحكومة المباشرة في جميع شركات الاتصالات الفاعلة في الاقتصاد. جميع هذه الاجسام الاقتصادية العاملة في القطاعات الاقتصادية هي رهن إشارة وتدخل الحكومة المباشر في نشاطها و تووجه عملياته مما يفتح الباب واسعا للفساد و يحرم الاقتصاد من المنافسة.
لا يعني وجود ثروة طبيعية مثل النفط في ليبيا انها ستقدم الرخاء المطلوب، فكثير من الدول ذات المصدر الوحيد للدخل لم تقدم لها سوي تركيبة معقدة من المشكلات الاقتصادية من تدخل الدولة السافر في الحياة الاقتصادية و الركون الي الريع و تقلص دور القطاعات الاقتصادية الأخرى في المساهمة بالناتج القومي الإجمالي ناهيك عن مشكلات البطالة و تكدس العاملين بالقطاع العام و استمرار حقن الاقتصاد بتشوهات في الأسعار وسياسات الدعم.
أن فقدان الاقتصاد المؤسسي هو معضلة الاقتصاد الليبي الأساسية فجل الاقتصاد يدار رسميا عبر مؤسسات عامة او شبه عامة تتملك بها الحكومة و استثماراتها و يتأثر بتوجهات الحكومة وبرغم ان التشريعات القانونية تسمح بالحرية الاقتصادية لكن جل المؤسسات الرئيسية القائمة بالاقتصاد تمتلك من قبل الحكومة او استثماراتها و اغلبها يتم دعمها لضمان استمرارها من قبل الحكومة بسبب فشلها ماليا و إداريا ، و لازال القطاع الخاص لم يتبلور في شكل مؤسسي مناسب و شفاف و قادر علي المساهمة في التنمية ويغلب عليه في واقع الحال الشكل العائلي و العمل في الظل بعيدا عن الدور المأمول و المساهمة الحقيقية بالنمو الاقتصادي و غالبا هو يقتبس نفس السلوك البيروقراطي و السلطوي في إدارة عملياته الموجود بمؤسسات القطاع العام.
ان استمر انهيارقدرة المؤسسات النقدية والمالية و الخدمية و الإنتاجية علي القيام بمهامها بسبب الانقسام والحرب و اتساع رقعة اقتصاد الظل وغياب نشاط سوق المال كمنظم للاقتصاد ومراقب للشفافية والإفصاح المالي، كل ذلك وغيره ، كل ذلك يحد من قدرة الاقتصاد الليبي على رفع من مستويات الدخول الحقيقية وتحسين الناتج القومي الإجمالي ويقلص الفقر ويمنح الشباب فرص عمل حقيقية بالقطاعات المنظمة في مؤسسات اقتصادية مختلفة ، لذلك لا مناص من واعادة تنظيم المؤسسات الاقتصادية سواء العامة او الخاصة وعدم تمييزها عن بعضها و ان تعمل بتنافسية كاملة مع القطاع الخاص تحت مظلة الشفافية و عبر أدوات سوق المال المنظم للإفصاح و الشفافية حتي يمكن من المساهمة في تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة عبر مؤسسات اقتصادية مستقرة.
ان المؤسسات الاقتصادية المستقرة تعني ضرورة فصل دور الدولة عن ممارسة الأنشطة الإنتاجية و الخدمية و افساح المجال امام القطاع الخاص بشكل اكثر تنظيما و ثقة مؤسساتية و إقامة شراكات بين القطاعين العام و الخاص لتنفيذ المشروعات و تقديم الخدمات علي ان يقتصر دور الدولة علي الاشراف و التسهيل و ليس المشاركة بإقامة أنشطة و مشروعات مشتركة كما هو الحال عندما قامت الدولة الليبية بأنشاء شركة للمشاركة بين القطاع العام و الخاص و تولت هذه الشركة الدخول و الاستثمار بالمشاركة مع القطاع الخاص. فمن المهم ان تتوقف الدولة و مؤسساتها عن تمويل أنشطة الاستثمارات بالصناديق و المحافظ و الشركات الحكومية باستثناء الاستثمار في البني الأساسية الرئيسية و إرساء اطار لممارسة الدولة لدور المؤسسة المراقبة و المنظمة و الضامنة لتطبيق القواعد بعدالة بين الأطراف و الداعمة لتنويع الاقتصاد و اتاحة فرص التمويل العادل و المناسب لكافة أدوات ممارسة النشاط الاقتصادي كما ان الاستقرار المؤسسي يحتم ان يقتصر دور الدولة علي الرقابة و الاشراف و التخلص من النموذج القائم حاليا و الذي يجمع بين الملكية و الرقابة و الإدارة معا مما يضعف من قدرة الاقتصاد علي التنافسية و التوجه نحو نموذج اقتصاد مستقر ويفسح المجال للقطاع الخاص ان يلعب دورا أوسع و مساهمة اكبر بالاقتصاد و ينموا باطار شفاف ينظم حقوق الملكية ويطبق الإفصاح المؤسسي الإداري و المالي للملاك و يساعد علي بناء ثقة مع مؤسسات الرقابة الحكومية و يعززمن دور المؤسسات الخاصة في التنمية الاقتصادية و المجتمعية و الإنسانية و الثقافي.
مقترحات لتدعيم الاستقرار المؤسسي
- أولا : ان خلق مؤسسات اقتصادية مستقرة يتطلب ان يكون هناك مشروع وطني ورؤية ثابتة ترتكز علي التوقف عن منح أي ميزة لاي شركة عامة او مؤسسة حكومية تقوم بممارسة اعمال اقتصادية و ان يسمح بمنافسة عادلة بين جميع المتداخلين في النشاط الاقتصادي، و إعادة تنظيم مجلس المنافسة و ليشمل المنافسة بين القطاع العام و الخاص و يراقب مدي توافر المناخ المناسب للمنافسة بين جميع المتداخلين في النشاط الاقتصادي بغض النظر عن الملكية.
- ثانيا: من الأهمية ان يتم الفصل بين الإدارة والملكية لكافة أوجه النشاط الاقتصادي الذي تمارسه الحكومة او احي أذرعها في الحياة الاقتصادية وان تكتفي الدولة بدور الرقيب والمنظم للنشاط الاقتصادي.
- ثالثا: التوقف عن دعم الوحدات الاقتصادية الحكومية الفاشلة والقيام بتصفيتها او خصخصتها وفقا للأساليب المناسبة بهدف خفض التكاليف المصاحبة ووقف الإهدار وإصدار تشريعات مناسبة تعمل علي ضبطها و تحجيم قدرة الحكومة علي تمييز الأنشطة التي تمارسها وحدات اقتصادية تابعة او شبه تابعة لها.
- رابعا: إقرار استراتيجية لإعادة هيكلة الصناديق الاستثمارية ونظام عملها ومعالجة إشكاليات ملكية صندوق الانماء وحقوق أصحاب الوثائق المالكين والموزع عليهم استثمارا صندوق الانماء.
- خامسا: اقرار استراتيجية للتعزيز الاستثمار والتمويل الخاص المنظم بكافة القطاعات الاقتصادية (النفطية و الاتصالات و الاستثمارية و المصرفية و غيرها) وتحديد سبل المشاركة بها، عبر إعادة هيكلة اقتصادية قطاعية من الناحية التنظيمية والإدارية و الملكية وذلك بما يسمح للقطاع الخاص ان يكون موجودا و مالكا و يساهم في تحقيق النمو المستهدف بكافة القطاعات.
4- العدالة الاجتماعية والاقتصادية
العدالة الاجتماعية والاقتصادية هي إتاحة فرص متكافئة للمواطنين عبر الحصول علي الرعاية الصحية والتعليمية وحق السكن وفرص العمل وتقوم العدالة الاجتماعية والاقتصادية علي فكرة تقليل الفوارق بين الطبقات من خلال أنظمة لأجور والمرتبات بالقطاعين العام والخاص وبناء منظومة للحماية الاجتماعية والاقتصادية عبر تبني قواعد واضحة لمنظومة الدعم بكافة اشكاله المتفق عليها في اطار المجتمع للفئات المستحقة كما تشمل منظومة الرعاية والدعم للفئات الضعيفة والفقيرة وكبار السن والأطفال و العاطلين عن العمل وغيرهم مما تجب علي المجتمع مساعدتهم وحمايتهم ، و بالإضافة الي منظومة الضرائب والجباية العامة.
وفقا لأدبيات الاقتصاد الاجتماعي يتم قياس مستوي العدالة الاجتماعية عبر تطبيق نموذج قياسي يعرف (معامل جينى) يعبر عن حجم الفجوة الموجودة بين مجموع الأنصبة التي تحصل عليها (أو ينفقها) طبقات أو شرائح المجتمع المختلفة، أغنياء وفقراء ومتوسطو الدخل، وبين ما كانوا ليحصلوا عليه (أو ينفقونه) لو تحققت المساواة الكاملة إذن فكلما زاد حجم هذه الفجوة (أي كلما ارتفع معامل جينى)، كان المجتمع أبعد عن المساواة والعدالة الاجتماعية بين مكوناته .
وتبرز أهمية عدالة توزيع الدخل بين فئات الشعب والتي تنعكس على حصة الفقراء والشرائح الدنيا من المجتمع وهذه الشرائح ليس لديها ترف الادخار لذا تحول دخلها إلى طلب فعال على السلع والخدمات وهذا يحفز الدولة أو مستثمرين جددا من القطاع الخاص لإقامة مشروعات جديدة لتلبية التزايد فى الطلب الفعال ، وتلك المشروعات الجديدة تقوم بتوظيف موظفين وعمال جدد وتوزيع دخول جديدة عليهم وتتحول تلك الدخول بدورها إلى طلب فعال على السلع والخدمات، وتحفز قيام مشروعات جديدة في دورة لا تنتهى يُطلَق عليها (مضاعف الاستثمار) الذى يعد الرافعة الرئيسية لأى نهوض أو ازدهار اقتصادي قوى وقابل للاستمرار وهذا يعنى أن العدالة الاجتماعية والاقتصادية هي شرط للنمو الاقتصادي المتواصل بقدر ما هي شرط أساسي للاستقرار السياسي القائم على التراضي واتفاق العيش المشترك بين مختلف اطياف الشعب من قبائل أو أعراق ومناطق .
ومن الثابت تاريخيا أن انعدام العدالة وتفشي الصراعات سوء السياسية و المسلحة وتحول البلاد الي وضع يسيطر فيه منطق القوي وينعدم فيه الشعور بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية يقود حتما الي انفجار اجتماعي واقتصادي يسبب كوارث اجتماعية ويعطل المصالح الاقتصادية وقد يقود الي انهيار المؤسسات الاقتصادية والتي هي اساسا عماد التنمية الاقتصادية والاجتماعية و الاقتصادية المنشودة بليبيا .
بشكل مختصر فان العمل نحو ترسيخ العدالة الاجتماعية والاقتصادية يتطلب التركيز علي مجموعة من الاليات الهامة في اطار تبني رؤية لمستقبل الاقتصاد الوطني الليبي و تشمل الاتي:
– أولا: عدالة توزيع الدخل بين أبناء الشعب الليبي و الذي يشمل كافة موارد الدولة سواء كان ريعي عبر النفط او غيره من الموارد الطبيعية او موارد الجباية العامة كالضرائب و الرسوم او عوائد الاستثمار الحكومي وذلك عبر ان تعكس الموازنة الحكومية مستهدفات العدالة الاجتماعية و الاقتصادية و التركيز علي الانفاق التنموي علي حساب الانفاق الجاري و رفع مستوي البني الأساسية و ان تخصص برامج الدعم للفئات المهمشة و الفقيرة بشكل واضح معلن و شفاف لهم و تحت إدارة السلطات المحلية، و يشمل مراجعة شاملة لمنظومة الدعم القائم و إعادة هيكلتها ضمن منظومة الحماية الاجتماعية لكافة المستحقين من أبناء الشعب.
– ثانيا: إعادة تنظيم الأجور و المرتبات و تعزيز العدالة عبر معايير الكفاءة و المهارة في العمل و الحد الأدنى لها سواء بالقطاع العام او الخاص مع التحفيز علي التوجه نحو العمل بالقطاع الخاص و تقديم الحوافز المناسبة للعاملين و الجهات المستوعبة لهم من القطاع الخاص.
– ثالثا: تعزيز دور الحكم المحلي بصلاحيات و سلطات واسعة بالمحافظات و البلديات يسمح لهم بالمساندة و المتابعة للفئات الضعيفة المهمشة و الفقراء بالمجتمع من الأطفال و الشباب العاطل عن العمل و كبار السن و المعاقين و غيرهم و رقابة مجتمعية عبر مؤسسات المجتمع المدني .
– رابعا: إرساء قواعد التمكين الاقتصادي للفقراء ومساعدتهم علي تحسين اوضاعهم الاقتصادية عبر تحسين قدرتهم علي الحصول علي التمويل لإقامة مشروعات اقتصادية و تمكينهم من تلقي الدعم المناسب في اطار حاضنات مجتمعية مناسبة تهدف لتمكين الفقراء من العمل او إقامة مشروعاتهم الخاصة.
– خامسا: إقامة المناطق الصناعية و التجارية والخدمية بكافة المدن و بالقرب من تجمعات السكان و مخططات معتمدة لتسهيل إقامة الأنشطة الاقتصادية المختلفة و تعزيز دور حاضنات الاعمال في دعم المبادرين و تعزيز الانشطة الاقتصادية القائمة علي الابداع و الابتكار .
– سادسا: إعادة تنظيم و تطوير منظومة ملكية الأصول العقارية و المالية و الفكرية و حفظ الحقوق و كل ما يتعلق بها من عمليات بشفافية من نقل ملكية و إدارة و حفظ ورهن و قيد و شراء و بيع بما يضمن الفعالية و الكفاءة المناسبة .
ان هذه الأسس تشكل معا اطار وحاجز مانع يقي افراد المجتمع و فئاته الضعيفة من التعرض لمخاطر انعدام العدالة الاجتماعية و الاقتصادية و تساعدهم علي النهوض و تحقيق طموحاتهم و مقدرتهم علي العيش بكرامة و يدفع بهم نحو المشاركة الاقتصادية الفاعلة .
– سابعا: تحقيق الشمول المالي الموسع ليشمل جميع المواطنين و الوصول لهم بسهولة لتقديم خدمات مالية مبتكرة و تلبي احتياجاتهم للوصول للتمويل و الحصول عليه لتمويل مشروعات و احتياجات اقتناء الأصول المختلفة ، و توسيع شبكة الدفع الالكتروني و التسوية الفورية للمدفوعات و نشر تطبيقات الخدمات المالية الالكترونية في اطار من التنافسية العالية بين الممولين و المزودين و البنوك في ظل رقابة مؤسسية شاملة .
5- الحوكمة المؤسسية الشاملة
الحوكمة المؤسسية مصطلح حديث العهد نسبيًا في عالم الاقتصاد و ادارة الاعمال فهو يتركز علي مسالة ضبط و تنظيم العلاقات و الاختصاصات بين اطراف المسؤولية بالمؤسسة الاقتصادية ، و بشكل اكثر تحديدا هو اطار منظم يحدد الاختصاصات و المسؤوليات و يعزز من شفافية عمل الاطراف المعنية بصناعة و تنفيذ القرارات داخل المؤسسة
وتبين قواعد الحوكمة بدقة دور ومهام مجلس الادارة و المدير التنفيذي و اللجان التي يجب ان يشكلها لمتابعة الاعمال الدورية وتقييم مستوي المخاطر التي تتعرض لها المؤسسة و مراجعة و تقييم نظام الرقابة و الضبط الداخلي ، و ايضا تقوم انظمة الحوكمة بوضع اطار تحدد بموجبه مهام ووجبات الادارة التنفيذية و خصوصا المدير العام و فريقه الذي يشرف علي تنفيذ الاعمال و علاقته مع مجلس الادارة ، و سبل المشاركة الفاعلة في عملية اتخاذ القرار و تنفيذ سياسة مجلس الإدارة.
ان واقع الحال في ليبيا يشير الي ان انظمة الحوكمة في البيئة الليبية غير معروف الا في النظام المصرفي منذ 2005 و صار الزامي التطبيق اعتبارا من 2010 ولكن كل الدراسات التي تناولت مدي تطبيق الحوكمة بالمصارف الليبية تشير الي انعدام التطبيق الجدي و الصحيح و في احسن الاحوال تطبيق شكلي لا اكثر ولا اقل ، زيادة علي ذلك فان دليل الحوكمة الصادر عن المصرف المركزي يعتبر ضعيف البناء و يحتاج الي تطوير شامل لقواعده و الواقع ان المؤسسات الليبية سواء العامة و الخاصة المصرفية و غير المصرفية في حاجة ماسة ان تعمل بقواعد وضوابط حوكمة داخلية ترسم سبل القيام بالأعباء في اطار تنظيم العلاقات بين مستويات المسؤولية بالمؤسسة و تعزيز الشفافية المالية .
سيكون من المهم لإعادة بناء الاقتصاد الليبي و تعزيز قدرته علي النهوض بالمستقبل ان يعمل كل اطراف العملية الاقتصادية من مؤسسات حكومية رقابية محوكمة تفصل بين الملكية و الإدارة و الرقابة علي القطاع الاقتصادي و مؤسسات اقتصادية خاصة في جميع القطاعات تطبيق قواعد حوكمة مؤسسية تضبط العمل الداخلي و علاقاته بين اطراف المسؤولية المختلفة وخصوصا بين الملاك الرئيسين و مجلس الإدارة و الإدارة او المديرين التنفيذيين و تبني عملية انفاذ تطبيق متطلبات الشفافية و الإفصاح عبر استخدام التقنيات الالكترونية المساعدة علي سرعة الاستجابة و تحقيق العدالة و حتما ان هناك حاجة ماسه لوضع قواعد الحوكمة و الشفافية لكل من الوحدات العامة و المؤسسات الحكومية الاقتصادية تتضمن قواعد الادارة و الصلاحيات و اتخاذ القرارات علي مستوي مجلس الادارة و الادارة التنفيذية و تفعل عمل مجالس الادارات علي اسس مشاركة حقيقية في صناعة القرار بعيدا عن التدخل في العمل التنفيذي عبر لجان مجالس الادارة المتخصصة في رسم السياسات مثل لجنة المخاطر و لجنة الاستثمار و لجنة المراجعة والرقابة المالية و لجنة المكافآت و التعويضات و لجنة الاستراتيجيات وغيرها حسب طبيعة كل نشاط و تتضمن قواعد الحوكمة اجراءات و أليات الارتباط بالنفقات وسبل طرح العطاءات و المناقصات بشفافية و سبل الانفاق و نشر التقارير عنها بكل شفافية لتعزيز المساهمة و الرقابة المجتمعية .
ان انفاذ نظام متكاملة لحوكمة المؤسسية في القطاعات الرقابية الحكومية سواء علي مستوي الوزارات و وحدات الحكم المحلي يتطلب إعادة تصميم الهيكل الإداري و الوظيفي للدولة الليبي بما يحقق الفاعلية و الكفاءة في عمليات اتخاذ القرارات الإدارية و المالية و التصرفات تجاه المال العام و تقديم الخدمات المختلفة . وفي المؤسسات الاقتصادية المملوكة للحكومة بشكل كامل او جزئي و المؤسسات و الشركات المملوكة للقطاع الخاص و ذلك عبر قواعد حوكمة تعزز فصل الاختصاصات و تحد من التداخل بين الملكية و الإدارة و الرقابة و تعزز الشفافية . فالحوكمة المؤسسية الشاملة امر في غاية الأهمية لمستقبل الاقتصاد الليبي وذلك لمواجهة جائحة الفساد المنتشرة بالاقتصاد الليبي وفقا لتقارير الشفافية الدولية ، كما سيسهم تبني قواعد حوكمة شاملة لكل قطاع و نشاط حكومي او خاص التركيز علي إرساء قواعد للشفافية و المصداقية و الموثوقية و تضع أليات للرقابة الداخلية و الرقابة الحكومية و المجتمعية . وسيكون امر في غاية الأهمية ان يتم اسناد مهمة اصدار أنظمة و قواعد الحوكمة لجهة مستقلة بالدولة الليبية تشرف علي تبني و تطوير معايير الحوكمة و معايير تعزيز التنمية المستدامة و تحقيق أهدافها الشاملة لكل قطاع او نشاط من الأنشطة المختلفة.
ان تفعيل منظومة الحوكمة المؤسساتية تتطلب الاخذ التوصيات التالي:
أولا: إعادة تفعيل عمل منظومة سوق المالي، فسوق التداول لها دور هام عبر تحفيز الشركات للأدراج بالسوق و تطبيق متطلبات الإفصاح و الشفافية و القواعد التي تلزمها بوضع اطار للحوكمة المؤسساتية لديها و عكسها في تقاريرها الدورية.
ثانيا: إعادة تفعيل هيئة الرقابة علي سوق المال و الأدوات المالية الغير مصرفية و توحيدها و تحفيز اطلاق أدوات استثمارية تشجع علي تنمية الاستثمار . كما ان الهيئة ستكون معنية بإصدار و تنظيم الإفصاح و الشفافية و منظومة الحوكمة بكافة المؤسسات و الأدوات المالية المصرفية و الغير مصرفية.
ثالثا: تعزيز شفافية المؤسسات الحكومية واصدار نظام حوكمة وشفافية للوحدات الحكومية العامة و العمل علي تطبيق الأنظمة الالكترونية في تعزيز العلاقة مع الأطراف المتعاملة معها.
رابعا: تبني نظام شفاف للعطاءات الحكومية بكافة اجزائها في اطار من الحوكمة لكافة العمليات المتعلقة بالتوريدات و الاشغال الحكومية.
6- إعادة تفعيل منظومة سوق المال الليبي
توقف سوق المال الليبي عن العمل بشكل شامل منذو 2014 يعتبر انتكاسه حقيقية لمناخ الاستثمار المحلي و اهدار لقوق المستثمرين بالشركات المدرجة بالسوق ، كما ان توقف السوق عن العمل كان له اثر شديد علي بيئة الاستثمار بليبيا و احبط الطموحات و التطلعات لتعزيز دور السوق في خدمة كافة الأطراف المرتبطة بسوق المال.
بصدور قانون سوق المال انفصل الدور الرقابي عن تنظيم التداول بالسوق، و الذي يأتي تلبية للمتطلبات التنظيمية و المعروفة بأسواق المال. و تم تشكيل مجلس إدارة الهيئة و خصصت له ميزانية حكومية ولكن للأسف لم يتمكن مجلس الإدارة من القيام بوجباته و الدور المنوط به و لعل عدم وجود خبرة و خطة استراتيجية لتفعيل دور الهيئة و أيضا تعطل صدور اللائحة التنفيذية لسوق المال حتي عام 2018 و توقف السوق عن العمل زاد من مصاعب الهيئة في القيام بدورها. و يري الفريق ان من الأهمية ضرورة إعادة تفعيل هيئة سوق المال و ان تضع اطار زمني واضح لتفعيل دورها في التراخيص المهنية و المساهمة في ارجاع سوق الأوراق المالية للعمل و لعب دور مع كل الأطراف ذات العلاقة من الحكومة و مصرف ليبيا المركزي و الشركات المدرجة في توفير مناخ مناسب للاستثمار بليبيا.
عملت الحكومة اكثر من مرة علي تغيير مجلس إدارة هيئة سوق المال خلال السنوات الماضية و لكن لم يحقق ذلك أي عمل حقيقي علي ارض الواقع ربما لنقص الخبرة و الدراية من جهة و نقص التمويل الحكومي اللازم من جهة أخرى و الاغرب ان اخر تعديل جعل وزير الاقتصاد رئيس مجلس إدارة الهيئة بالمخالفة لقانون سوق المال، كما ان اختيار الأعضاء يبدو انه لم يراعي التخصص و الدراية بجوانب سوق المال .
ان احد معوقات قيام الهيئة بدورها المأمول وفقا للقانون هو صدور قوانين لاحقة لقانون سوق المال رقم 10لسنة 2010 و علي وجه الخصوص تعديل قانون المصارف من قبل المؤتمر الوطني العام بموجب القانون رقم 46 لسنة 2012 بموجب المادة السادسة عشر و الذي سلب اختصاص الموافقة علي انشاء صناديق الاستثمار و اختصاص الموافقة علي شركات التمويل التأجيري و اعطي حق الرقابة علي صناديق الاستثمار و شركات التمويل الايجاري لمصرف ليبيا المركزي رغم انها أدوات تمويل غير مصرفية و بالمخالفة لما جاء بقانون سوق المال الليبي رقم 10 لسنة2010 و الذي حصر الرقابة علي كافة الأدوات المالية غير المصرفية ضمن اختصاص هيئة الرقابة علي سوق راس المال.
وبالتالي فان هناك حاجة لتصويب الوضع و ارجاع هذه اختصاصات المنصوص عليها بموجب قانون سوق المال الي اشراف و رقابة هيئة الرقابة علي الأدوات المالية الغير مصرفية. ان إعادة تنظيم هيئة الاشراف و الرقابة علي سوق المال و تفعيل دورها عبر تجميع جميع الجهات الاشرافية علي الأدوات المالية غير المصرفية تحت مضلة واحدة سيكون مفيد في إعادة اطلاق وتفعيل الدور الرقابي الغير المصرفي ( هيئة الرقابة علي التامين و هيئة الرقابة علي سوق المال و التمويل الايجاري ) و في خلق مناخ مناسب و يساعد علي تنسق و إدارة سياسات الاستثمار بشكل اكثر فاعلية.
يتطلب إعادة تنظيم و تأهيل بيئة الاستثمار بسوق المال الاخذ بالمقترحات التالية:
ارجاع العمل بمنظومة سوق المال بكافة مؤسساته (السوق ، الهيئة الرقابية ، نشاط الوساطة ) يعتبر في غاية الأهمية لإعادة تأهيل بيئة الاستثمار بالسوق الليبي.
هناك مسؤولية و ضرورة اقتصادية وطنية لإعادة تنظيم و تفعيل سوق المال الليبي بمفهومه الشامل و الذي يتضمن إعادة تفعيل دور سوق الأوراق المالية (البورصة) و هيئة الاشرف و الرقابة علي الأدوات المالية الغير مصرفية.
إعادة التأسيس القانوني و ارجاع الاختصاصات المسحوبة من هيئة الرقابة و الاشراف علي سوق المال و دمج جميع الأدوات المالية الغير مصرفية تحت مضلة رقابية واحدة( سوق راس المال، التمويل الايجاري، سوق التامين ) و التي تجد تطبيقات واسعة في العالم و المنطقة العربية، و بدون شك ان المسار التنظيمي و الذي يجب ان تضطلع به الحكومة عبر توفير التمويل اللازم و تأهيل الكوادر المناسبة لقيادة مشروع إعادة توطين و ترسيخ دور سوق المال و مؤسساته المتنوعة بالاقتصاد الليبي.
7- القطاع الخاص مستقبل الاقتصاد
الصعوبات والعراقيل أمام القطاع الخاص في ليبيا كثيرة ومعقدة بعضها بسبب هيمنة المؤسسات الحكومية على بعض عمليات الإنتاج والتوزيع و تقديم الخدمات وبعضها بسبب ضعف القدرة المؤسسية للمؤسسات الداعمة والمساندة للقطاع الخاص و ضعف البنية الأساسية اللازمة والبعض الآخر متعلقة بازدهار اقتصاد الظل غير المنظم والذي يحد من المنافسة العادلة للقطاع الخاص المنظم ولعل المعوق الأهم بدون شك هو تعطل دور البنوك كمحرك يوفر التمويل للقطاع الخاص سبب تعطيل العمل بالفائدة المصرفية وتوقف السجل العقاري كأداة مهمة جدًا لتوثيق الملكيات والرهون على العقارات وانعدام المخططات المختلفة المعتمدة للتطوير العمراني التي تسمح بالتوسع وتطور المشروعات وتوفر بيئة لأدوات الاستثمار والمستثمرين للمشاركة في تسريع دوران عجلة الاقتصاد الوطني .
وعلي جانب آخر ما زال الوقت المستغرق لتأسيس أدوات النشاط الاقتصادي كبيرًا وبعضها لا تحكمه قواعد شفافة وتنخره البيروقراطية والممزوجة بالفساد فالتقارير والمؤشرات الدولية حول توافر بيئة الأعمال والمقدرة التنافسية و الشفافية وغيرها تشير إلى تعلق الاقتصاد الليبي بذيل القائمة، دون تطور ملموس لسنوات طويلة .
ما يخيف في الأمر هو استمرار حالة فقدان الهوية الاقتصادية الوطنية والاتزان و الاستقرار الاقتصادي معا وتعمق الهشاشة الاقتصادية وانعدام قدرة القطاع الخاص على أن يعمل بشكل منظم لأسباب كثيرة منها ما هو متعلق بنواح تنظيمية لدى الجهات الإشرافية والرقابية و منها متعلقة بضبابية عمل القطاع الخاص من حيث الملكية و التداخل الواسع بين الملكية و الإدارة خصوصا بالمؤسسات الخاصة التي بها مستثمرين رئيسيين بالمخالفة لقوانين و حدود الملكية و التي تحتاج ان يتم تعريضها للشفافية الشاملة و الإفصاح و تعديل القوانين لحماية صغار المستثمرين وأخرى متعلقة بتعطل دور المؤسسات المالية و المصرفية في القيام بأعباء التمويل وعدم قدرتها على التفاعل الإيجابي بالاقتصاد ، ومن جهة أخرى أسباب تتعلق بغموض سياسة سعر الصرف الذي صار العامل الأبرز والمهيمن، على أداء القطاع الخاص بليبيا خلال فترة الصراع .
قد يكون من باب الضرورة إعادة هيكلة الاقتصاد الليبي والتخلص من اقتصاد يكرس المصالح الضيقة والتطلع إلى اقتصاد عملاق قادر على خلق الرفاهية والتنمية المنشودة بعد انقشاع غبار الصراع السياسي والمسلح و الوصول الي استقرار سياسي مناسب يشجع علي أن يتم تأسيس اقتصاد يقوم على أسس المنافسة الكاملة وإبعاد الحكومة تدريجيا عن ممارسة أي نوع من النشاط الإنتاجي والخدمي وان يعاد النظر في أدوات ممارسة النشاط وسبل تحقيق العدالة بين المتداخلين في النشاط الاقتصادي بتنافسية كاملة وإجراءات وقواعد الحماية والاحتكار والمنافسة وغيرها حتى لا يضطر رجال الأعمال إلى التحايل على حدود ونسب الملكية المحددة بالشركات المساهمة و يكون ذلك عبر إعادة منظومة سوق المال الي العمل و تطويرها لتلعب دورها في إعادة تنظيم الاستثمار المحلي و الأجنبي وجذبه الي القطاعات و الأنشطة الجاذبة و وفقا لقواعد الإفصاح و الشفافية. كما ان السعي ان يلعب القطاع الخاص دورا هاما في الاقتصاد الليبي يتطلب ان يباشر مجلس التنافسية الاقتصادية المستقل عمله وفقا للمعايير العالمية في تحسين التنافسية المحلية و توجيه الحكومة و المؤسسات العامة و الخاصة نحو سبل تعزيز التنافسية و السير نحو مشروع التنويع الاقتصادي المستهدف.
ان تطوير القطاع الخاص و تحميله مسؤولية التطوير الاقتصادي المستقبلي للاقتصاد الليبي في حاجة ماسه ان تقوم الدولة و مؤسساتها بالعمل وفقا لاطار محدد نحو تحقيق الأهداف الاستراتيجية المرسومة علي سبيل التنوع و الحوكمة و الشفافية و استقرار المؤسسات الاقتصادية و الحكومية و القضائية و إقرار مسارات تنموية واضحة و بني أساسية مناسبة و قادرة علي تلبية متطلبات الازدهار الاقتصادي المنشود.
8- تنويع واستدامة اقتصادية
التنويع في مصادر الدخل القومي والتحول من الاقتصاد الأحادي المصدر تعتبر هدفا استراتيجيا من ضمن الأولويات الرئيسية التي يجب ان يتركز عليها مستقبل الاقتصاد الليبي. كما ان الاستدامة الاقتصادية عبر تعزيز الاستدامة المالية للموازنة العامة للدولة و ذلك من خلال التركيز علي التنمية وتخفيض الانفاق الجاري مقابل تخصيص الجانب الأكبر من الموازنة لأغراض الاستثمار في البنية الأساسية وفقا لقانون التخطيط بحد ادني 70% من الدخل النفطي و السيطرة علي العجز بالموازنة عند مستويات مقبولة في حدود 3% من الناتج الإجمالي المحلي.
ان تحقق هدف التنويع الاقتصادي و تحقيق استدامة اقتصادية و الخروج من متلازمة الريعية التي صاحبت الاقتصاد الليبي واثرت بشدة علي هيكل الدخل القومي و جعلت الاقتصاد منكشف بشكل كامل علي الاضطرابات بأسواق النفط العالمية ، يتطلب وضع اطار متكامل و متدرج لعملية التنويع الاقتصادي عبر قحام قطاعات اقتصادية ذات قدرة علي ان تتحول الي قاطرات اقتصادية مصاحبة لقاطرة القطاع الكربوني الليبي ، فلا يعني التنوع عدم الاستثمار بالقطاع النفطي و لكن يجب ان يوضع اطار زمني محدد لزيادة مساهمة القطاع النفطي عبر تعميق قيمته المضافة و تسخير ايراداته لتأهيل و توسيع قطاعات اقتصادية اخري مثل القطاع العقاري و الصناعي و السياحي و الزراعي و الاتصالات و المعلومات وقطاع الخدمات المالية و الالكترونية و التي قد تكون مؤهلة لتحقيق التنوع المنشود خلال فترة زمنية مناسبة . وحتما ان مستقبل استقرار الاقتصاد الليبي و ازدهاره سيعتمد علي قدرته علي تحقيق التنوع الشامل و المستدام و الذي يعني بالضرورة ان يتم السير في تنفيذ الاستراتيجيات و البرامج الاقتصادية المقترحة كموجهات و استراتيجيات لمستقبل الاقتصاد الليبي و التي ستنعكس جميعا في بوتقة التنوع و استدامة المالية العامة و الاستدامة الاقتصادية بشكل عام و التي ستحقق مستقبل افضل للاقتصاد الليبي و تجعل منه يقف علي أسس صلبة و تجعل منه اقتصاد قادر علي تلبية متطلبات العيش الكريم لشعبه و يحمل افاق أوسع لشبابه الطامح لتحقيق مستقبله المشرق وليكون الاقتصاد الليبي اقتصادا رائدا بالمنطقة العربية و الافريقية حلقة وصل يتفاعل مع محيطه الجغرافي بشكل اكثر استقرار و استدامة للجميع
وفي هذا الاطار فان من الأهمية التركيز علي بعض التوصيات التي تساعد علي اتعزيز التوجه نحو مزيد من التنويع الاقتصادي:
إعادة هيكلة قطاع النفط و تحويل المؤسسة الوطنية للنفط الي مؤسسة قابضة ربحية مستقلة عن الموازنة العامة للدولة الليبية و ان تتعامل مع الشركات التابعة لها وفقا للأسس التجارية .و العمل علي ادراج المؤسسة بسوق المال و اتاحة جزء من راس مالها للاكتتاب و ان تكون مؤسسة استثمارية شاملة في مجالات الطاقة التقليدية و الطاقة الطاقات المتجددة بما يعزز من مساهمتها في التنويع الاقتصادي
إطلاق مشروع متكامل لتفعيل وتنظيم الاستثمار العقاري يشمل الاطار القانوني و الفني و حفظ الحقوق في الملكية و ادارتها ورهنها بما يسمح لمساهمة الأدوات الاستثمارية مثل صناديق الاستثمار العقاري و الاقتراض المصرفي لقطاع من اهم القطاعات الواعدة.
اعداد استراتيجية شاملة للقطاعات الاقتصادية واعتمادها باطار قانوني و تحديد مساهمتها المتدرجة عبر اطار زمني لتعزيز مساهمتها بالتنويع الاقتصادي علي مدي زمني طويل الأمد و وضع مصفوفة بالمتطلبات لمعالجة العراقيل التي تواجه كل قطاع مفردا و علي مستوي كل القطاعات و اشراك الأطراف المعنية في المعالجة و تسهيل رفع المشاركة و زيادة المساهمة في الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد الليبي.
د. سليمان سالم الشحومي
سبتمبر / 03/ 2023

